مفهوم التطرف الديني في الشرع
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد. فإن مصطلح (التطرف الديني) منتشر جدا في خطاب كثير من الناس اليوم على اختلاف طبقاتهم وميولهم الفكري واستعمالاتهم ويكثر وقوع هذه العبارة في الصحف ولإذاعة ووسائل الإعلام الأخرى.
والذي دعاني لكتابة هذا الموضوع اختلاف الناس في فهم مدلول هذا المصطلح مابين غالي متشدد ومتوسط ومفرط متساهل فكل يفسر هذا المصطلح على حسب مدرسته الفكرية وميوله وهواه ومبادئه وأهدافه وما يرمي إليه من إطلاق هذه العبارة حتى أنك بعد التأمل تجد تفاوتا كبيرا بين المثقفين والمتخصصين في معنى ومدلول هذا المصطلح. ويضاف إلى ذلك جسارة وجرأة بعض الكتاب والمثقفين بله والمنتسبين إلى الوسط الفني في إطلاق هذا المصطلح والمشاركة في تطبيقه والخوض في تحديد مدلوله.
وتفسير التطرف الديني أمر نسبي يختلف من بيئة لأخرى وثقافة لأخرى وطبيعة لأخرى فما تعده أنت من التطرف يعده غيرك من التوسط والاعتدال وقد يعده آخر من التساهل والتفريط وهذا أمر مشاهد. بل لو ذهبنا إلى أمر أبعد ربما الشخص نفسه يزاول سلوكا أو فكرا مقتنعا به ثم يتغير موقفه ويرى أن ما قام به يعد من التطرف ويتبرأ من فعله وهذا كثير في مراجعات الناس. وبهذا يتبين لنا أنه من الصعب جدا بل من الممتنع أن نحدد مدلول التطرف ونفسره بمفهوم معين ونتفق على ذلك لأننا لا ننطلق من منطلقات ثابتة متفق عليها ونتحاكم إليها بل ننطلق ونرتكز على دليل الإلف والعادة والبيئة والثقافة والتكوين الشخصي. فما دام كذلك فسنختلف اختلافا ظاهرا في ذلك حتى من أبناء البلد الواحد والثقافة المعينة.
وهناك إشكالية أكبر تواجهنا في تفسير التطرف مفهوم ثقافة الغرب في تعيين التطرف والإرهاب فبيننا وبينهم تباين كبير في المرجعية الدينية والثقافة والعادات والتقاليد مما يجعلنا من الصعب أن نتفق معهم في هذا الأمر. مع كوننا نتفق في الجملة مع سائر الأمم على تحريم أفعال خطيرة اتفقت الشرائع على تحريمها كقتل الأبرياء والتعدي على ممتلكات الغير ونحوها لكنها يسيرة في العدد لا تمثل الجمهور الأعظم في المسائل والجزئيات التي تدخل تحت مدلول التطرف الديني. فلأجل هذا وغيره وجب الرجوع إلى أصل محكم في تفسير التطرف وتعيين مدلوله ألا وهو الشرع المحكم الذي لا يأتيه الباطل المنزل من عند الله الموحى إلى نبيه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
بداية نتفق أن الشرع جاء بتحريم ومنع الغلو والتطرف في الأقوال والأفعال والاعتقادات واستخدم أنواعا من الأساليب والدلالات في بيان ذلك تارة بالنهي عن ذلك وتارة بالتحذير من مشابهة الكفار في الغلو وتارة ببيان أن الغلو سبب للهلاك واتفق فقهاء الشريعة على تحريم الغلو بجميع صوره وأنواعه. قال تعالى (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ). وقال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين). رواه النسائي. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، إنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله). متفق عليه. ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (هلك المتنطعون) قالها ثلاثا. وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى سلوك القصد والاعتدال في الأمور كلها.
لكن متى يصح لنا نسبة الفعل إلى التطرف الديني هل هو مدلول واسع يبيح لكل شخص استعماله فيما لا يروق له ولا يوافق هواه أو يخالف مذهبه أم هو خاص له معالم ورؤية واضحة:
(1) فمن الناس اليوم من يطلق على من يمتنع عن شرب الدخان والخمر أنه متطرف.
(2) ومنهم من يطلق على من يعفي لحيته ويرفع إزاره بأنه متطرف.
(3) ومنهم من يطلق على من يحرم سماع الموسيقى متطرف.
(4) ومنهم من يطلق على من يحظر التعامل بالربا والقمار أنه متطرف.
(5) ومنهم من يطلق التطرف على الامتناع عن مصافحة الأجنبية والخلوة بها.
(6) ومنهم من يطلق التطرف على ترك محبة الكفار و ترك موالاتهم و عدم مشاركتهم في أعيادهم.
(7) ومنهم من يطلق التطرف على الفتاة التي تلتزم الحجاب ولباس الحشمة.
(
ومنهم من يعد التمسك بعقيدة السلف الصالح والحرص على اتباع السنة من التطرف